كيف تساعد صديقًا يمرّ بظرفٍ نفسي صعب؟ خطوات عملية
“الصديق وقت الضيق”، مَثَلٌ نحفظه جميعًا عن ظهر قلب، بل ونستشعر معانيه جيّدًا حين نمرّ بضائقةٍ تستدعي وجود صديق ما من حولنا، يُؤنسنا ويفهمنا ويقدّم لنا يد العون والمساعدة ويخفّف مُصابنا بكلماته الداعمة واللطيفة. وكما نتوقّع من الآخرين أن يكونوا حاضرين لمساعدتنا في الأوقات الصعبة، فلا بدّ أن نقدّم نحنُ لهم ذلك في أوقاتهم العسيرة. وقد يأتيك اتّصال من صديقٍ مُقرَّبٍ لَك يقول فيه إنّه “مُتعَب” نفسيًّا، أو قد تلحظ -وحدك- أنّ صديقَك الآخر مكتئب ولا يخرج من منزله ولا يمارس نشاطاته الطبيعية وأنّ وظيفته أو دراسته باتت مُهدّدة من شدّة ما يُخيّم عليه من حزن.
كيف تُساعد صديقك الحزين؟ وكيف تساعد شخصًا مكتئبًا؟ وما أفضل طريقة لتقديم العون والدعم النفسي لشخص عزيز يمرّ بضائقة أو قلق أو خوف من وقوع مسألةٍ يخشاها؟ لا شكّ أنّه من المحزن أن ترى صديقك حزينًا أو خائفًا، بينما أنتَ تقف مكتوف اليدين لأنّك تعجز عن تقدير الخطوات الصحيحة، ولأنّك لا تعرف كيف تبدأ وماذا تقول وما لا ينبغي قوله لشخص يمرّ بهذه التجربة المؤلمة. حسنًا، هذا المقال سيساعدك على أن تعرف كيف تُقدِّم المساعدة لصديقك، وكيف تبدأ وماذا تقول، بل حتّى ما لا ينبغي قوله بحسب خبراء علم النفس.
ما يجب أن تعرفه
إنّ الاضطرابات النفسية والضغط النفسي عمومًا هي من أكثر التجارب الإنسانية شيوعًا، بل إنّ انتشار الاضطرابات النفسية قد ارتفع بشكلٍ مَلحوظ بالتزامن مع جائحة كورونا، حيث أظهرت الكثير من الدراسات زيادة نسب القلق والاكتئاب والشعور بالضغط النفسي العام، حيث يعاني حوالي ربع البشر من القلق وربعهم من الاكتئاب، ونصفهم تقريبًا من الشعور بالضغط النفسي بحسب دراسة أجريت عام 2021 لتحديد نسب شيوع المشكلات والاضطرابات النفسية خلال فترة جائحة كورونا(1). وتختلف الدراسات السابقة في نسبة حدوث اضطراب نفسي لدى نقطة معينة في حياة الإنسان، إلا أنها تكاد تتفق تقريبًا على كون النسبة لا تقلّ عن 20%، وبعضها يصل إلى أكثر من 90%(2). وهذا يشمل دراسات أجريت في المناطق العربية، كالتي أجريت في لبنان عام 2008 ووجدت أن النسبة هي 25% تقريبًا(3).
ومع هذا الشيوع الكبير للاضطرابات النفسية، ومن باب أولى المستويات العادية (غير المَرَضية) للضغط النفسي، يأتي الدعم الاجتماعي بوصفه أحد أهم العوامل التي تقي وتساعد على التعافي أيضًا من الحالات النفسية السلبية، ويأتي غيابه أيضًا أحدَ عوامل الخطر المرتبطة بزيادة معدلات القلق والاكتئاب والأفكار الانتحارية وغيرها من المشكلات(4) (5). وتبعًا لذلك، تتنوّع التدخّلات العلاجية وغير العلاجية للتحديات النفسية المختلفة، فليست كلّها محتاجةً إلى المتخصصين، وقد يشكّل وجود بيئة اجتماعية من العائلة أو الأصدقاء شبكةً قويّةً من الحماية الفعّالة والتدارك السريع لأي تدهور في الحالة النفسية مع تقلّبات الحياة وضغوطاتها المختلفة.
لماذا من المهم أن ندعم بعضنا بعضًا؟
إنّ الإنسان كائن اجتماعي بامتياز، وتعتمد صحتنا وكذلك مدى تأثّرنا بالآخرين على الكثير من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية، إلّا أن التأثّر بالآخرين على كل الأحوال، وأهمية الدوائر الاجتماعية التي ندور في فلكها بصفتنا أفرادًا، هي حقيقةٌ ثابتة في علم النفس. ويأتي بناء الشبكات الاجتماعية الداعمة من العائلة والأصدقاء والزملاء أساسًا يعطيه الكثير من علماء النفس أولويةً حتى على اختيارات أخرى في الحياة، فقد يكون طريق الحياة بحد ذاته أقل أهمية ممّن تسلك هذا الطريق معهم، فالإنسان في نهاية الأمر هو قضية كما يقول غسان كنفاني.
لكنّ الدعم الاجتماعي والشبكات القوية الداعمة لا تأتي من فراغ. فلكي يكون الآخرون داعمين لنا، علينا أن نكون داعمين لهم، هذا أساسٌ بديهيّ، إلّا أن الثقافة الفردانية الحديثة أصبحت ترسّخ شعورًا بالاستحقاق الكاذب لدى البعض، وكأنّنا يجب أن نحظى بالدعم من الآخرين دون أن نتكلّف شيئًا بمساعدتهم بدورنا، وبأن نكون معهم حين يحتاجون ذلك. فالعلاقات الصحية والمستدامة بشكل أكبر في علم نفس العلاقات هي العلاقات المتكافئة، والتي تنطوي على إحساس مشترك بوجود الآخر لدى الحاجة إليه، لا العطاء من طرف دون طرف.
يشكّل مصطلح “الدعم النفسي الاجتماعي” أحد أهم المصطلحات التي تضمّ تحت لوائها العديد من النظريات والممارسات وكمًّا هائلًا من الدراسات أيضًا. والصداقة هي أحد أشكال الدعم الاجتماعي التي أثبتت فعاليتها في العديد من الأبحاث السابقة حول العالم، كحاجز (buffer) مهمّ يخفف من وطأة الضغوطات النفسية ويشكّل آثارها، بل ويتنبأ بالصحة النفسية العامة للفرد(6) (7) (8). لكن المثير للاهتمام هنا هو أنّ الدعم بحد ذاته لا يكفي أحيانًا لحصول الأثر الإيجابي، بل إنّ بعض أشكال الضغط والتنمر الاجتماعي تلبس عباءة الدعم لكنها تؤثر سلبيًّا في نهاية المطاف. بل إنّ بعض الدراسات تركّز على قياس تصوّر الفرد وشعوره بوجود دعم اجتماعي، وتعتبره أهم من وجود شبكة حقيقية -موضوعيًّا- من الدعم الاجتماعي في كثير من الأحيان، فالأمر مرهون بالنوع أكثر من الكمّ(9). كما أن بعض الأبحاث حاولت أن تستكشف هذه المساحات من الآثار السيئة الممكنة للدعم الاجتماعي، وقد وجدت فعلًا أن الدعم الموفّر في المكان الخطأ أو بالطريقة الخطأ يزيد الأمور سوءًا (10) (11) (12)
ماذا أفعل حين يكون صديقي حزينًا أو مكتئبًا أو قَلِقًا؟
- الحضور وإبداء الاهتمام
إنّ أول خطوة يمكن لها أن تُحدِث فرقًا في حياة أي شخص عزيز يمرّ بضائقة نفسية هي أن تكون حاضرًا بجانبه. هذا لا يعني أن تكون حاضرًا جسديًّا بالضرورة -وإن كان ذلك أفضل بطبيعة الحال- إلّا أن المقصود تحديدًا هو إشعار الصديق بأنّ هناك من ينتظره ويراه ويهمّه أمره. وربّما يكون أكثر ما يريده جميع البشر هو الشعور بأنّهم مرئيّون، وأنّ مصائبهم ومشكلاتهم ليست وحوشًا يقارعونها وحدهم، بل إنّ هناك من يرى ويقدّر ذلك ومستعدّ للدعم بالقول، وبالفعل أيضًا.
من الجدير بالذكر هنا أنّ الحضور لا يكفي إن لم يتمّ إظهاره للآخر، فالكثير من فجوات التواصل وسوء التفاهم قد تقف عائقًا أساسيًّا أمام حصول الدعم الاجتماعي. من المهمّ إبداء ذلك بصراحة بالقول إنّك موجود ومهتمّ لدعم صديقك في حال شعرتَ بتغير ملحوظ أو تدهور في حالته الصحية النفسية أو وظائف حياته الاعتيادية. يعتمد مستوى وجودك الأمثل بعد تصريحك بذلك على مدى سوء الحالة وطبائع الشخص الآخر، إلّا أن التصريح المبدئي بأنك “هنا من أجله” وأنّك ستكون سعيدًا بمساعدته في حال حاجته لذلك، هو اللّبنة الأساسية لكل شيء لاحق
لا تبدأ بإطلاق الأحكام، ولا تستعجل بتقديم النصائح والتوجيهات
يُعدّ الاستماع الإيجابي والفعّال أحد أهم المهارات الأساسية للدعم النفسي الاجتماعي، ويعني أن تستمع بهدف إبقاء الآخر متفاعلًا في المحادثة بشكل إيجابي، وإشعاره بأنّه مرئيّ وأنّ ما يقوله مسموع ومفهوم كما يريد هو وليس كما يريد المستمع. ويمكن استخدام عدة تقنيات، مثل الأسئلة المفتوحة والذكية بحسب سياق المحادثة، وكذلك إعادة الصياغة والتلخيص وغيرها. يُعدّ الاستماع بهذا الشكل بوّابة لتنفيس المشاعر لدى من يعاني من تجربة ما، وبداية الطريق لتوكيد مشاعره، أي اعتبارها شيئًا مفهومًا ويمكن التعامل معه، وهو الشرط الأهم لأي دعم نفسي فعّال. من المهم البداية بكل هذا قبل القفز للنصائح والتوجيهات والحلول، وهو خطأ شائع جدًّا.
من فوائد الاستماع الإيجابي أنّه يساعد الشخص على ترتيب أفكاره ومشاعره أيضًا، الحديث عنها مع شخص آخر يجعلها خارجة عنه؛ ما يساعد في التعامل معها بعد ذلك. ومن البديهي طبعًا أن تمثيل هذه المشاعر والسلوكات هو أمر صعب، فهي تنبع من إحساس أصيلٍ بالاتّصال مع الآخر والتمثّل الوجداني لمعاناته، لكنه أمر يتطور عبر الممارسة كذلك.
ساعده على الحفاظ على الأمور الأساسية في حياته
حين يمرّ الإنسان باضطراب نفسي، فإنّ من الصعوبة بمكان الحفاظ على حالة مُثلى من تأدية الوظائف الاعتيادية، ويصبح أكثر صعوبة كلما تم تجاهله مع الزمن. وهكذا فإنّ مساعدة الصديق على إنجاز أموره الاعتيادية (حتى على مستوى أفعال مثل ترتيب الغرفة، وتفقّد البريد الإلكتروني، وإعداد الطعام، ومصاحبته في مشاويره) هو أمرٌ مهمّ، وقد يساعده على مواجهة التحدي الداخلي الذي يعايشه. من المهم التنويه هنا إلى أنّ من المهم ترك مسافة والاعتناء بالنفس لدى من يساعد ويدعم أيضًا، وعدم الانغماس تمامًا في حياة الآخر، لأن ذلك قد يجعله يتورط ويرتبط عاطفيًّا مع المدعوم؛ ما يسبب له خللًا في التفاعل الإيجابي، وقد ينقل المشاعر السلبية للداعم.
عرّفه إلى أنواع الضغوطات والاضطرابات النفسية
الوعي بالشيء بداية مهمّة لتحديد طبيعة التعامل معه. تتعدّد أشكال ومستويات الضغوطات والاضطرابات النفسية، وهذا يعني أن طريقة التعامل معها قد تختلف كذلك، ومن هنا يكون التثقّف بالأساسات العامة للأعراض والعلامات مفيدًا، فعدوٌّ تعرفه خير بكثير من عدو تجهله. وربما يجعلك العلم بالشيء أقل خوفًا منه. من الجدير بالذكر أن ثمّة دراسات عديدة استنتجت أن زيادة الوعي بعلامات الاضطرابات النفسية يجعل الإنسان بشكل عام أكثر قدرة على اتخاذ قرارات إيجابية حيالها.
ما لا تقوله قد يكون في كثير من الأحيان أهم مما تقوله
بطبيعة الحال، لا يحبّ الإنسان أن يرى عزيزًا عليه يُصاب بمكروه أو بضائقة، فنتسرّع في القول والفعل بحسن نية لكي نساعده، ربما نقول له إنه يبالغ وإن الأمور ليست بهذا السوء، وربما أيضًا نبالغ في تدخّلنا لدرجة افتراض أنها حياتنا لا حياته، إلّا أن هذه الطريقة في التعامل مع الأمور لا تجدي في معظم الأحيان. احترام إرادة الشخص وقدرته على التغيير بنفسه هو أساس مهم للدعم الاجتماعي. ومن المهمّ اختيار الأسلوب بقدر اختيار محتوى الكلام، و”الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه”. وحاول الابتعاد عن أي كلمات من شأنها أن تُشعر صديقك بأنّه عاجز أو غريب أو غير مفهوم.